معرفة

الفواصل القرآنية .... من إعجاز القرآن الكريم

الفواصل القرآنية .... من إعجاز القرآن الكريم

الفواصل القرآنية .... من إعجاز القرآن الكريم 
الجمعة 21 محرم 1433 هـ , 16 ديسمبر 2011
نزل القرآن بلسان عربي مبين، ونزل على قوم شغلهم البيان حتى كان أعظم بضاعتهم ، وتفعل الكلمة فيهم ما لا تفعل السيوف

الفواصل القرآنية .... من إعجاز القرآن الكريم

نزل القرآن بلسان عربي مبين، ونزل على قوم شغلهم البيان حتى كان أعظم بضاعتهم ، وتفعل الكلمة فيهم ما لا تفعل السيوف، وقد كانوا مجبولين بحكم البيئة والنشأة وأمية الكتابة على حب البيان الرفيع المليء بالصور الإيقاعية المساعدة على تذكر المادة اللفظية كالقوافي والأسجاع وكل ما يعطي نغماً موسيقياً لفظياً ، وكان على القرآن لكي يؤثر فيهم أن يعلو على بيانهم، وهكذا جاء القرآن ممثلاً أرقى استعمال للغة من لغات البشر، وتشرفت العربية بهذا الشرف الرفيع.

ومن أساليب القرآن الممتعة، وتراكيبه الرصينة المبدعة فواصله (رؤوس آياته) والفواصل: جمع فاصلة، والفاصلة في القرآن: هي آخر كلمة في الآية، وهي بمثابة السجعة في النثر، وبمنزلة القافية في النظم، وسميت فاصلة لأنها فصلت بين الآيتين، والآية التي هي رأسها، والآية التي بعدها، ولعل هذه التسمية أخذت من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} آية 2 من سورة هود، وقوله جلّ ذكره: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [سورة فصلت آية 3].

وصور الإعجاز في القرآن لا تحصى، ومنها إعجازه اللغوي، ومن مظاهر الإعجاز اللغوي استعماله للفواصل التي أغنى الله بها العرب عن ولعهم بالقوافي والأسجاع وعشقهم لموسيقى الألفاظ ، فوجدوا خيراً من ذلك في القرآن الكريم ، فآمنوا به.

تعريف الفاصلة:

 هي لفظ آخر الآية ينتهي بصوت قد يتكرر محدثاً إيقاعاً مؤثراً في صورة السجع وقد لا يتكرر، ولكن الفاصلة تحتفظ دائماً بإحدى صور التوافق الصوتي مع الفواصل السابقة واللاحقة.([1])

فضل دراسة الفواصل القرآنية:

إن دراسة الفواصل وسط أخواتها من الظواهر الإيقاعية المشابهة لها في نهايات الجمل العربية كالقافية والسجع والجناس - حين يكون آخر الجملة - والإتباع ، وذلك ليظهر لنا فضل القرآن على غيره من الكلام، مع أنه استعمل اللغة نفسها التي استعملها العرب بكل صورها ومظاهرها تقريباً، ولن ندخل هنا في تفاصيل الخلاف الذي ثار بين البلاغيين حول استعمال مصطلح السجع في القرآن الكريم، وإنما نذكر أن الشائع استعمال مصطلح الفاصلة في القرآن والسجع في غيره، مع التنبيه على أنه ليست كل الفواصل مسجوعة، بل منها المسجوع ومنها المرسل.

وتحليل الفواصل ودراستها يستدعي الإلمام بعلوم الأصوات والصرف والنحو والمعجم والدلالة ، وذلك كله يمدّ الدراسة الأسلوبية بعناصرها الأولى.

ولمعرفة فواصل الآيات رؤوسها فوائد جمة، ومنافع جليلة، منها:

1- تمكين المكلف من الحصول على الأجر الموعود به على قراءة عدد معين من الآيات في الصلاة, عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلاَثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ ». قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ « فَثَلاَثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِى صَلاَتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ »([2]). والخلفات - بفتح الخاء وكسر اللام -: الحوامل من الإبل, والواحدة خلفة.

2- صحة الصلاة؛ فإن صحتها - في بعض الأوقات - تتوقف على معرفة الفواصل؛ وذلك أن فقهاء الإسلام- وبخاصة علماء الشافعية- قرروا أن من لم يحفظ الفاتحة - وهي ركن من أركان الصلاة - يتعين عليه أن يأتي بسبع آيات بدلا منها، فإذا كان عالما بالفواصل استطاع أن يأتي بالآيات التي تصح بها صلاته، وإذا لم يكن عالما بالفواصل عجز عن الإتيان بما ذكر.

3- صحة الخطبة فإن صحتها - في بعض المذاهب - تتوقف على العلم بالفواصل؛ وذلك أن فقهاء الشافعية نصُّوا على أن الخطبة لا تصح إلا بقراءة آية تامة, فمن لم يكن عالما بالفواصل يعسر عليه معرفة ما يصحح به الخطبة.

4- العلم بتحديد ما تسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة، فقد نصّ العلماء على أنه لا تحصل السنة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، ومن يرى منهم وجوب القراءة بعد الفاتحة لا يكتفي بأقل من هذه العدد، فإنّ من لم يعرف الفواصل لا يتيسر له تحصيل هذه السنة، أو هذا الواجب.

ولمعرفة فواصل القرآن الكريم ورؤوس آية طريقان:

الطريق الأول: توقيفي سماعي ثابت من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع الصحابة لها, كفواصل سورة الفاتحة؛ فقد روى أبو داود وغيره عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" ثم يقف ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم يقف، ثم يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ثم يقف، ثم يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ثم يقف، ثم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم يقف، ثم يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}"، وإنما وقف صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمات: الرحيم، العالمين، الرحيم، الدين، نستعين، المستقيم، الضالين؛ ليعلم الصحابة أنّ كل كلمة من هذه الكلمات فاصلة، ورأس آية، يصح الوقوف عليها اختيارا.. وهكذا كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف عليه في قراءته دائما نتحقق أنه فاصلة، ورأس آية، ويصح أن نقف عليه حال الاختيار.([3])

وفي القرآن العظيم كلمات وقف عليها صلى الله عليه وسلم حينا، ووصلها حينا، وهذه محل نظر العلماء، ومحط اختلافهم؛ لأن وقفه - عليه السلام - عليها في المرة الأولى يحتمل أن يكون لبيان أن هذه الكلمات فواصل، ورؤوس آيات، ويحتمل أن يكون لبيان صحة الوقف عليها، وإن لم تكن فواصل، ووصله - عليه السلام - لها في المرة الثانية يحتمل أن يكون لبيان أنها ليست رؤوس آيات، ويحتمل أنه وصلها - وهي فواصل في الواقع - لأنه وقف عليها في المرة الأولى لتعليم الصحابة أنها فواصل, فلما اطمأنت نفسه إلى معرفتهم إياها في المرة الأولى وصلها في المرة الثانية، ومن هنا نشأ اختلاف علماء الأمصار: المدينة، مكة، الكوفة، البصرة، الشام، في مقدار عدد آي القرآن، وعدد آياتها.

الطريق الثاني-لمعرفة الفواصل-: قياسي؛ وهو ما ألحق فيه غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لعلاقة تقتضي ذلك، وليس في هذا محذور، لأنه لا يترتب عليه زيادة في القرآن، ولا نقص منه، بل قصارى ما فيه تعيين محال الفصل والوصل.

أمثلة على الفواصل القرآنية:

1- التقديم والتأخير : وهو يحدث كثيراً في الفواصل القرآنية ، وله بلاغته الخاصة وجماله وإيقاعه المؤثر،وهو في كلامنا عملية فنية معقدة تحتاج إلى خبرة عليا بفن القول ، وترتبط بالمستويات العليا للغة ، ويقول فيه العلامة عبد القاهر الجرجاني : هو باب كثير الفوائد ، جمّ المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية…".

والتقديم والتأخير عند العرب مرتبطان بفن القول ، أي بالكلام ذي الطبيعة الفنية كالشعر والنثر الفني في ألوانه المتعددة ، والضابط للتقديم والتأخير عندهم هو الإعراب الذي يحفظ لكل لفظ موقعه في بناء الجملة سواء ورد مقدماً أم مؤخراً،وفي جملة" ضرب عبد الله زيداً"يقول سيبويه: "فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول ، وذلك قولك : ضرب زيداً عبد الله ، لأنك إنما أردت به مقدماً ما أردت به مؤخراً ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه،وإن كان مؤخراً في اللفظ ، فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون مقدماً،وهو عربي جيد كثير ، كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم ".

ومن صوره في الفواصل تقديم المفعول على الفاعل مثل: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر} [41 من سورة القمر]؛ وذلك لأن فواصل السورة كلها رائية فيتحقق الإيقاع الجميل بذلك ، ومنه تقديم المفعول للاختصاص مثل{ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون } [البقرة: 57] فقد حقق تقديم المفعول (أنفسَ ) غرضين ، الأول: إيقاعي وهو إجراء الفاصلة بالنون لتتوافق إيقاعياً مع غيرها، والثاني بلاغي وهو اختصاصهم بظلم أنفسهم ،

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 87 من سورة البقرة {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فكان مقتضى ظاهر الأسلوب أن يقال: "وفريقا قتلتم"، ولكن لما كانت فواصل السورة مبنية على وجود حرف المد قبل الحرف الأخير في الكلمة قيل {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} حتى تتناسب مع بقية فواصل السورة.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 46 من سورة يوسف {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} كرّر كلمة (لعل) مراعاة لفواصل الآي السابقة واللاحقة، ولولا هذه المراعاة لقال: (ليعلموا) أو (فيعلموا) وحينئذ لا يكون ثَمَّ تناسب بين هذه الفاصلة وبين ما قبلها وما بعدها من الفواصل.

ومنها قوله تعالى في سورة طه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}[ آية 67 ]قدم في الآية المفعول - وهو (خيفة), وأخَّر الفاعل وهو (موسى) على خلاف الأصل الذي يقتضي تقديم الفاعل على المفعول- رعاية لفواصل السورة المختومة كلها بالألف؛ حيث قدّم الضمير العائد على موسى وأخّر الفاعل لرعاية الإيقاع في الفاصلة ، وصور التقديم والتأخير في الفواصل كثيرة .

 



([1])  انظر: الفواصل القرآنية - دراسة بلاغية د . السيد خضر، قسم اللغة العربية -كلية المعلمين بالرياض.

([2])  رواه مسلم (1908).

([3])  الفواصل القرآنية للشيخ عبد الفتاح القاضي.

الكاتب :موقع معاهد